كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحِل له أكله، وإنما يأكل منه غيره عندكم؛ فإذا كان الذبح لا يفيد الحِلّ للذابح فأولى وأَحْرى ألا يفيده لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه؛ فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله.
الخامسة قوله تعالى: {الصيد} مصدر عومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المَصِيد؛ ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بريٍّ وبحرِي حتى جاء قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فأباح صيد البحر إباحة مطلقة؛ على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى.
السادسة اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه؛ فقال مالك: كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهِرّ والثعلب والضّبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم، وإن قتله فَدَاه.
قال: وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرِم، فإن قتلها فَدَاها؛ وهي مثل فراخ الغربان.
ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب؛ مثل الأسد والذئب والنمر والفَهْد؛ وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحِدأة.
قال إسماعيل: إنما ذلك لقوله عليه السلام: «خَمسٌ فَواسقُ يُقتلْن في الحِلّ والحرَم» الحديث؛ فسماهنّ فسّاقًا؛ ووصفهن بأفعالهن؛ لأن الفاسق فاعل للفسق، والصغار لا فعل لهن، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقِر؛ فلا تدخل في هذا النعت.
قال القاضي إسماعيل: الكلب العَقُور مما يعظم ضرره على الناس.
قال: ومن ذلك الحية والعقرب؛ لأنه يخاف منهما، وكذلك الحِدَأة والغراب؛ لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس.
قال ابن بُكَير: إنما أُذن في قتل العقرب لأنها ذات حُمَة؛ وفي الفأرة لقرضها السّقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر.
وفي الغراب لوقوعه على الظهر ونَقْبه عن لحومها؛ وقد روي عن مالك أنه قال: لا يقتل الغراب ولا الحِدَأة إلاَّ أن يضرا.
قال القاضي إسماعيل: واختلف في الزُّنْبُور؛ فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال: ولولا أن الزُّنْبُور لا يبتدىء لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العَدَاء ما في الحيّة والعقرب، وإنما يَحمي الزُّنْبُور إذا أُوذِي.
قال: فإذا عرض الزُّنْبُور لأحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء في قتله؛ وثبت عن عمر ابن الخطاب إباحة قتل الزُّنْبُور.
وقال مالك: يُطعِم قاتله شيئًا؛ وكذلك قال مالك فيمن قتل البُرْغُوت والذّباب والنّمل ونحوه.
وقال أصحاب الرأي: لا شيء على قاتل هذه كلها.
وقال أبو حنيفة: لا يَقتل المحرمُ من السباع إلا الكلب العَقُور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما؛ وإن قَتل غيره من السباع فدَاه.
قال: فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه؛ قال: ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحِدَأة، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زُفَر؛ وبه قال الأوزاعي والثّوري والحسن؛ واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دوابّ بأعيانها وأرخص للمحرِم في قتلها من أجل ضررها؛ فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها.
قلت: العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البُرّ بِعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادِية على الكلب بعلة الفِسْق والعَقْر، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله، وقال زُفَر بن الهُذَيل: لا يقتل إلا الذئب وحده، ومن قتل غيره وهو مُحرِم فعليه الفِدية، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه؛ لأنه عجماء فكان فِعله هَدَرًا؛ وهذا ردّ للحديث ومخالفة له.
وقال الشافعي: كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله؛ وصغار ذلك وكِباره سواء، إلاَّ السِّمْع وهو المتولد بين الذئب والضّبع، قال: وليس في الرَّخَمَة والخنافس والقِرْدَان والحَلَم وما لا يؤكل لحمه شيء؛ لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} فدل أن الصيد الذي حُرّم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالًا؛ حكى عنه هذه الجملة المُزني والرّبيع؛ فإن قيل: فلم تُفدَى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل؟ قيل له: ليس تُفدى إلا على ما يُفدَى به الشَّعر والظُّفر ولُبس ما ليس له لُبْسه؛ لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته.
فكأنه أماط بعض شعره؛ فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي.
وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي؛ قاله أبو عمر.
السابعة روى الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خَمسٌ من الدواب ليس على المحرِم في قتلهنّ جناح الغراب والحِدَأة والعقرب والفأرة والكلب العَقُور» اللفظ للبخاري؛ وبه قال أحمد وإسحاق.
وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خمسٌ فَواسِقُ يُقتلْن في الحِلّ والحرَمَ الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العَقُور والحديا» وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا: لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة؛ لأنه تقييد مطلق.
وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ويرمي الغراب ولا يقتله» وبه قال مجاهد.
وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر، والله أعلم.
وعند أبي داود والترمذي: والسّبع العادي؛ وهذا تنبيه على العلة.
الثامنة قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} عامّ في النوعين من الرجال والنساء، الأحرار والعبيد يقال: رجل حرام وامرأة حرام، وجمع ذلك حُرُم كقولهم: قَذَال وقُذُل.
وأَحرم الرجلُ دخل في الحرم؛ كما يقال: أَسْهَلَ دخل في السهل.
وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالإشتراك لا بالعموم.
يقال: رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحُرم أو في الحَرَم، أو تلبّس بالإحرام؛ إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرًا، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف؛ قاله ابن العربي.
التاسعة حَرَم المكان حَرَمان، حَرمُ المدينة وحَرَمُ مكة وزاد الشافعي الطائف، فلا يجوز عنده قطع شجرهِ، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حَرَم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما.
وقال ابن أبي ذئب: عليه الجزاء.
وقال سعد: جزاؤه أخذ سَلَبه، وروى عن الشافعي.
وقال أبو حنيفة: صيد المدينة غير محرّم، وكذلك قطع شجرها.
واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سَلَبه» وأخذ سعد سَلَب من فعل ذلك.
قال: وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سَلَب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ.
واحتج لهم الطحاوي أيضًا بحديث أنس: ما فعل النُّفَير؛ فلم ينكر صيده وإمساكه وهذا كله لا حجة فيه، أما الحديث الأوّل فليس بالقويّ ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السَّلَب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرّم ليس عليه عقوبة في الدنيا.
وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم.
وكذلك حديث عائشة: أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحَشْ فإذا خرج لَعِب واشتد وأَقبل وأَدبر، فإذا أَحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض، فلم يَتَرَمْرَم كراهية أن يؤذيه.
ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيّب أن أبا هُريرة قال: لو رأيت الظّباء تَرتع بالمدينة ما ذَعَرتُها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بين لابتيها حرام» فقول أبي هريرة ما ذَعَرتُها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة.
وكذلك نزع زيد بن ثابت النُّهسَ وهو طائر من يد شُرَحْبيل بن سعد كان صاده بالمدينة؛ دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملّك ما يصطاد.
ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «اللَّهُمَّ إنَّ إبراهيم حرّم مكة وإني أُحرم المدينة مثل ما حَرَم به مكة ومثله معه لا يُخْتلى خَلاَها ولا يُعضَد شجرُها ولا يُنفَّر صيدُها» ولأنه حرم مُنِع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة.
قال القاضي عبد الوهاب: وهذا قول أقيس عندي على أُصولنا، لاسيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام.
ومن حجة مالك والشافعي في ألاَّ يُحكم عليه بجزاء ولا أخذ سَلَب في المشهور من قول الشافعي عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «المدينة حَرَمٌ ما بين عَيْر إلى ثَوْر فمن أحدث فيها حَدَثًا أو آوى مُحدثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صَرْفا ولا عَدْلًا» فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفّارة.
وأما ما ذُكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به؛ لما روي عنه في الصحيح: أنه ركب إلى قصره بالعَقِيق، فوجد عبدًا يقطع شجرًا أو يخبطه فسَلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يردّ على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم؛ فقال: معاذ الله أن أردّ شيئًا نَفَّلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يردّ عليهم؛ فقوله: «نَفَّلنيه» ظاهِرُهُ الخصوص.
والله أعلم.
العاشرة قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطىء والناسي؛ والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام.
والمخطىء هو الذي يقصد شيئًا فيصيب صيدًا، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه.
واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال: الأول ما أسنده الدَّارَقُطْني عن ابن عباس قال: إنما التكفير في العمد، وإنما غلّظوا في الخطأ لئلا يعودوا.
الثاني أن قوله: {مُتَعَمِّدًا} خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة.
الثالث أنه لا شيء على المخطىء والناسي؛ وبه قال الطَّبَري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جُبَير، وبه قال طاوس وأبو ثور، وهو قول داود.
وتعلق أحمد بأن قال: لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر، دل على أن غيره بخلافه.
وزاد بأن قال: الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل.
الرابع أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان؛ قاله ابن عباس، وروى عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزُّهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم.
قال الزُّهري: وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسُّنة؛ قال ابن العربي: إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعمًا هي، وما أحسنها أسوة.
الخامس أن يقتله متعمدًا لقتله ناسيًا لإحرامه وهو قول مجاهد لقوله تعالى بعد ذلك: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ}.
قال: ولو كان ذاكرًا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأوّل مرة، قال: فدل على أنه أراد متعمدًا لقتله ناسيًا لإحرامه؛ قال مجاهد: فإن كان ذاكرًا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها؛ قال: ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه.
ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرًا للإحرام أو ناسيًا له، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان؛ وقد رُوِي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدًا، ويستغفر الله، وحَجُّهُ تام؛ وبه قال ابن زيد.
ودليلنا على داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضَّبع فقال: «هي صيد» وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشًا، ولم يقل عمدًا ولا خطأ.